بأقلامهم >بأقلامهم
زياد الرّحباني... "وداعًا"!



جنوبيات
بقلوب يعتصرها الأسى، وعيون تفيض بالدّمع، نودّع اليوم عبقريًّا لن يتكرّر، موسيقارًا غيّر وجه الأغنية العربيّة، وشكّل وجدان أجيال بكاملها...
نودّع اليوم زياد الرّحباني، الذي غادرنا عن عمرٍ ناهز التّاسعة والستّين، تاركًا وراءه إرثًا لا يُقاس، ووجعًا لا يُوصف.
هو ابن فيروز وعاصي، لكنّه لم يكن مجرّد "ابنٍ لأسطورة"، بل كان الأسطورة بحدّ ذاته.
حمل إرثًا عظيمًا، ولكنّه خلق طريقه الخاصّ، بنى اسمه بعرقه، وصوته، وعبقريّته الفذّة، ولم يكن يومًا ظلًّا لأحد، بل شمسًا ساطعة في سماء الفنّ والفكر والمسرح والموسيقى.
في زمنٍ كانت فيه الأغنية العربيّة تكرّر نفسها، جاء زياد بفوضاه الجميلة، بموسيقاه الغاضبة والحنونة في آن، بألحانه التي تمزج الشّرق بالغرب، بالحزن بالسّخرية، وبالعبث العميق الذي يفضح الواقع ويصفعه.
كتب للنّاس، لا للنخبة فقط. غنّى وجع المواطن، سخر من السّياسة، واجه الجهل، حاور الحياة، ولم يساوم يومًا على فكره أو صوته أو قضيّته.
أعماله ليست مجرّد ألحان أو كلمات، بل هي مرايا صادقة لوجداننا العربيّ. فيروز بصوته، كانت تخرج إلى النّاس من نافذةٍ جديدة، مختلفة، جريئة، حين لحّن لها زياد. "كيفك إنتَ"، "عندي ثقة فيك"، "عودك رنّان"، وغيرها، لم تكن مجرّد أغانٍ، بل كانت انقلابات فنّيّة بكلّ ما للكلمة من معنى.
زياد لم يكن موسيقيًّا فحسب، بل كان أيضًا مثقّفًا، مسرحيًّا، كاتبًا، ناقدًا لاذعًا، فيلسوفًا شعبيًّا بنكهة لبنانيّة صادقة. رأيناه في "فيلم أميركي طويل"، و"بالنسبة لبكرا شو؟"، و"شي فاشل"، ساخرًا من الانهيار، ساخنًا بجرأته، دافئًا بإنسانيّته.
ومع رحيله، لا نخسر موسيقيًّا فذًّا فقط، بل نخسر وجدانًا، وضميرًا، وصوتًا كان يقول ما لا يُقال، ويعبّر عنّا حين نعجز عن التعبير.
فيروز، يا سيّدة الصّوت والنّور، عزاؤنا لكِ عظيم، ونحن نعلم أنّ وجع الأمّ لا يُضاهى، ووجع رفيقة الفنّ والرّوح لا يُقاس. كان زياد ابنك، ورفيقك، وجناحك في التّجديد والتّحليق. كان امتداد صوتك في العصر، وكان ظلّ حبٍّ لا يموت.
زياد الرّحباني... وداعًا أيّها العبقريّ الذي لن يتكرّر.
نمْ قرير العين، فقد قلتَ ما لم يجرؤ كثيرون على قوله، وكتبتَ ما ستظلّ الأجيال تردّده. رحل الجسد، وبقيت الفكرة، وبقي اللحن... وبقينا نحن نردّد:
ما رح ننسى... ولا يمكن ننسى.