![]() |
السبت 16 شباط 2019 13:01 م |
مستشفى الفنار للأمراض العقلية: مشهد من القرون الوسطى |
هي صدمة لا يمكن أن يقبلها أي "عاقل". وقبل السؤال عمّن يتحمّل الأوضاع البائسة والمزرية لحال المرضى في "مستشفى الفنار للأمراض العقليّة والعصبيّة"، هل على عاتق مالكته سمر اللبّان، أم هي مسؤولية وزارة الصحّة أو أي جهة ثالثة، فإنّ هذا المبنى الضخم يشبه أي شيء عدا اسمه. هو أشبه بمعتقل بائس، قُطع عنه الغذاء والماء والكهرباء وكل أسباب الحياة. قرّر السجّان فتح أبوابه كي يهرب المساجين منه. وأقل ما يقال إن تواجد المرضى فيه، لا يشكّل خرقاً فاضحاً لحقوق الإنسان وحسب، بل يشكّل خطراً على حياتهم أيضاً.
مكان كابوسي ندخل إلى المستشفى للحصول على إذن أي موظف لمعاينة المكان، فتصادفنا سيدة، تبيّن أنّ إحدى العائلات البقاعية وكّلتها بخدمة ومتابعة حال مريضة لهم، نظراً لصعوبة وصولهم بشكل متكرّر إلى المنطقة. تأخذنا بجولة لمطالعة حالات المرضى، محذّرة إيانا الإفصاح عن هويتنا الصحافية للموظفين، في حال صادفنا أحدهم: "أنتم هنا كجمعية خيرية تريدون المساعدة". لكن ما هو صادم فعلاً، أننا لم نصادف موظفاً أو ممرضاً أو طبيباً واحداً في انتقالنا بين الطبقات الثلاث للمبنى. كما لو أن المسؤولين عن المستشفى تركوها لتتدبّر نفسها بنفسها.
اللامعقول ننزل إلى الطبقة السفلية، فيتكرّر المشهد: عتمة وبرد وباب بقضبان يشبه أبواب المعتقلات، ورطوبة وروائح كريهة. تتهافت النسوة ويبدأن بالصراخ: "أرز ولحمة، يُطعموننا فقط أرز ولحمة على الغداء وفي المساء، وجبنة في الصباح، وفي حال عدم توفرها يُطعموننا فقط وجبتا الغداء والعشاء.. لا تدفئة ولا إنارة، لمبة واحدة تعمل أساساً في هذه الغرفة".
البحث عن الدكتورة نهرع إلى الخارج في نيّة رؤية أي شخص مسؤول عن المستشفى، لنتفاجأ بأن غرفة الأخير ملاصقة لمدخل المستشفى حيث دخلنا. غرفة مظلمة كغيرها من الغرف، نكاد لا نرى وجه ذاك الرجل الخمسيني. نبادر إلى السؤال عن المرضى ووضعهم وسبب انقطاع التيار الكهربائي، يجيب: تقنين الدولة، والمولد لا يعمل بسبب عدم توفر المحروقات. لكنه تحفّظ عن الإفصاح بأي معلومات، وطلب منا طرق باب مالكة المستشفى الدكتورة سمر، مشيراً إلى منزلها القريب من المكان. وبعد التأكّد من عدم وجودها في مكتبها وفي منزلها. نعود إلى المستشفى من جديد. نستوقف رجلاً في الباحة الخارجية فنكتشف بأنه ليس إلا أحد المرضى. يتمتم بكلمات غير مفهومة، ويسحب ورقة من بنطاله المهترئ، كتب عليها رقم هاتف. نفهم أنه يطلب نجدة أحد أقاربه، ربما، علّنا نتصل به لمساعدته.
الفضيحة لكن كلام هذا الطبيب المهذّب نفاه أحد الأطباء الذين ما زالوا يعملون في المستشفى. فقد اكتفى هذا الطبيب في إتصال مع المدن بالقول: "عندما تشّيد حائط دعم لحديقتك كيفما اتّفق، يجب أن لا تلوم البلدية في حال إنهياره.. والدكتورة سمر اللبّان، تستطيع أن تقول ما تشاء، والرد الوحيد على إدعائها هو المثل: إن لم تستحِ فافعل ما تشاء". أي بمعنى آخر، يفهم من كلامه أن إلقاء اللوم على وزارة الصحّة، أو أي طرف آخر، غير جائز حتى لو كانت الأخيرة مقصّرة. وهذا بالفعل ما قالته إحدى الطبيبات التي عملت في المستشفى لمدة خمس وعشرين عاماً، وتوقفت عن العمل منذ نحو أربعة أعوام. فحسب هذه الطبيبة، المسؤول الأول عن الأوضاع المزرية للمستشفى، هو صاحبة المستشفى التي ورثتها عن أبيها. فقد أنفقت كل الثروة التي ورثتها على حياة البذخ والإسراف، وانتهى بها الأمر إلى إهمال المستشفى وتركها للخراب.
صاحبة "المستشفى" وإذ نفت اللبّان التهم الموجّهة إليها بالفساد المالي وبهدر أموال المستشفى لحياتها الباذخة، ألقت اللوم على المحامية، ولم توفّر استخدام أقذع العبارات بحق وزراء الصحّة المتعاقبين وبالإسم (نتحفظ عن ذكرها). فالأموال المتراكمة على وزارة الصحّة تصل إلى أكثر من 8 مليار ليرة، هذا فضلاً عن أن السقوف المالية المعطاة، لا تكفي حاجة المستشفى، في ظل عدد المرضى المرتفع.
لا مبالاة اللبان وقلّة درايتها واستخفافها بحق المرضى، كشفتها بلسانها الفالت من عقاله، إذ أكّدت تهمة فتح المستشفى أمام المرضى للهرب (فرّ 60 مريضاً)، عازية السبب إلى جدل مع أحد وزراء الصحّة، الذي رفض رفع السقوف لتشمل عدد المرضى الفائض عن الحد المرسوم، فلجأت متحدّية إياه إلى فتح أبواب المستشفى أمام المرضى للهرب، وأثبتت له أنها "مرا قد كلمتها"، حسب قولها.
المصدر :المدن |