لبنانيات >أخبار لبنانية
200 ألف حلم لبناني مهدّد بالضياع


جنوبيات
ينفجر الشباب اللبناني بصمت مدوّ. يتخرّجون، ينتظرون، يصطدمون بالفراغ، ثم يحترقون بنار البطالة أو يُسحقون تحت طاحونة العمل المتعدد. لم يعُد التعليم في لبنان ضماناً لأي شيء، ولم تعُد الشهادة تساوي كرامة أو حتى لقمة عيش.
في ظلّ اقتصاد يلفظ أنفاسه، وسلطة تتآكل من الداخل، وسوق عمل بلا نبض، يتدحرج الشباب إلى مصائر لا تليق بتعبهم ولا بأحلامهم: إمّا ينهارون وهم يعملون ليل نهار، أو يجلسون بلا أمل، أو يرحلون إلى حيث لا رجعة.
من مقاعد الدراسة إلى أرصفة الانتظار
يتكدّس الخرّيجون عاماً بعد عام، لا يجدون وظيفة ولا فرصة ولا حتى بارقة أمل. في بلدٍ كان يُفاخر بعلمه، تحوّل التعليم إلى محطة استنزاف نفسي ومالي تنتهي بجدار مسدود. الجامعات تنتج الآلاف، لكن سوق العمل لا يتّسع لعشرات.
تقول أمل، خريجة اقتصاد من بيروت: ظننت أن التخرّج سيكون بوابة لحياة جديدة، فيها أمان واستقرار، ووظيفة تشبه تعبي، ومدخول يغطي حتى الحد الأدنى من طموحي. كنت أعدّ السنوات والامتحانات والليالي البيضاء، وكلّي ثقة أن النهايات السعيدة تأتي لمن يجتهد. لكن تبيّن أن التخرج ليس بداية، بل نهاية… نهاية الحلم والأمل.
تضيف: أرسلت مئات الطلبات إلى شركات ومؤسسات داخل وخارج البلد، ولم أتلقَّ حتى ردّاً واحداً. كأن شهادتي مجرد ورقة لا تفتح باباً ولا تلفت نظراً، سوى أنها راكمت عليّ القروض والديون. أشعر أن كل شيء ذاب فجأة: الوقت، والجهد، والثقة بالنفس. لم يعد في هذا البلد مساحة لحاملي الشهادات، ولا معنى للعلم حين يكون العاطلون عن العمل أكثر من الموظفين.
وتشير أحدث البيانات إلى كارثة أعدادها مرعبة: فقد ارتفعت نسبة البطالة العامة في لبنان، من 11.4 % قبل 2019 إلى نحو 29.6 % في عام 2022، بينما بلغت بطالة الشباب (15– 24 سنة) رقماً قياسياً بواقع 47.8 % في العام نفسه، وفق الإحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولية. وأظهرت تقديرات محلية أن المعدل تجاوز 35 % خلال 2023–2024، في ظل احتدام الأزمة الاقتصادية، فلا الدولة توظّف، ولا القطاع الخاص يُنتج، ولا الاستثمارات تدخل، فيما تنهار المؤسسات واحدة تلو الأخرى.
بشتغل 3 شغلات وما بلحق ارتاح
يكدح من يجد عملاً حتى الإنهاك، ويُهمَّش من لا يجد حتى الإحباط. لم تعُد ظاهرة “العمل المتعدد” خياراً لتحسين الدخل، بل صارت وسيلة للبقاء على قيد الحياة في بلد يُعاقب من يصرّ على البقاء فيه.
يقول فادي، 28 عاماً: أعمل من الفجر سائق توصيل، وبعد الظهر موظفاً بدوام جزئي في شركة صغيرة، ومساءً أقدم خدمات أونلاين مثل التفريغ أو الترجمة… ما بلحق ارتاح، بس مضطر… لأنو إذا تعبت، ما حدا رح يسأل عنك.
وفي هذا السياق، تُظهر تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن أكثر من 40% من الشباب اللبناني العامل، يضطرون إلى الجمع بين وظيفتين أو أكثر لتأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش. ومع الانهيار المستمر في قيمة الليرة اللبنانية، تُستهلك الرواتب قبل أن ينقضي الأسبوع الأول من الشهر. وفي المقابل، ارتفعت الأسعار بأكثر من 600 % خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فيما بقيت الأجور كما هي، أو تقلّصت بفعل التضخم والانهيار.
من التعليم إلى العدم فالهجرة
تنهار الجامعات كما تنهار البيوت، الخاصة منها باتت حكراً على الأغنياء، والجامعة اللبنانية تلفظ أنفاسها في ظل الإضرابات المزمنة، وانعدام الدعم، وتراجع المستوى الأكاديمي، وفي هذا السياق، تقول رنا، طالبة هندسة سابقة لـ “نداء الوطن”: “كنت بدي ابني بلدي. اليوم ما عم بقدر ابني مستقبلي، تركت الجامعة لأن والدي خسر شغلو، وما عدنا نقدر ندفع، هلّق بشتغل بائعة، وكل يلي درستو راح هدر.
تظهر أرقام اليونيسف، أن أكثر من 30 % من الشباب تخلّوا عن التعليم الجامعي وأكثر من 31 % أصبحوا في فئة “NEET” (لا يعملون، لا يدرسون، لا يتدرّبون). إنها هوّة سحيقة من الضياع.
من يخسر الوطن حين يربح الخارج؟
يفرّ الشباب اللبناني بالآلاف، لا لأنهم فقدوا الانتماء، بل لأن الوطن تخلّى عنهم. لا أحد يغادر بلاده حبًّا بالرحيل، بل يرحل حين يتحوّل الأمل إلى تذكرة سفر باتجاه واحد، وحين يصبح البقاء معاناة لا تطاق.
فبحسب تقارير منظمة الهجرة الدولية (IOM)، غادر أكثر من 200,000 لبناني البلاد في عام 2023 وحده، غالبيتهم من حاملي الشهادات الجامعية، في موجة هجرة هي الأكبر منذ عقود، ففي القطاع الطبي وحده، غادر أكثر من 3000 طبيب منذ عام 2021، بحسب نقابة الأطباء.
شباب بلا وطن ووطن بلا شباب
شهادات تُخبأ في الأدراج، وأحلام تُطوى في الصمت، وأجساد تُرهق في أشغال لا تكفي للبقاء. جيل كامل يُزج به في هامش الوجود، ضحية معادلة قاتلة: شباب بلا دولة، ودولة بلا شباب.
إن لم يُكسر هذا المسار الآن، فلبنان الذي عرفناه ذاك الوطن النابض بالحياة والعلم والإبداع، سيصبح ذكرى باهتة، وحكاية تُروى عن بلد أطفأ نوره بيديه وغرق في ظلمة اليأس.